حكى أن أحد الملوك كان مغرماً بالألغاز وحلها ، وكان يقرب إليه في مجلسه كل من يُظهِر النباهة
، وينجح في ابتكار لغز ذكي ومحير ،يشغل الناس فيه أياماً ، وربما شهوراً ..
وكان لهذا الملك ابنة اشتهرت بالذكاء والفطنة ، وكانت مغرمة كأبيها بالألغاز وحلها ، بل
واشتهر عنها براعتها في ابتكار الألغاز الصعبة التي تحير أذكى الأذكياء ،
لذا أحبها أبوها الملك ، وفاخر بها ، وخصها وحدها من بين النساء بحضور مجالسه ،
والمشاركة فيها !
وبلغ من ثقة الملك بابنته وذكائها وقدرتها على طرح الألغاز العصية على الحل ،
أن أمر مناديه أن ينادي في أرجاء المملكة بأن الملك سيزوج ابنته من أي مواطن في المملكة
ينجح في حل ألغاز ثلاثة تطرحها الأميرة عليه ، وسيمنحه أيضاً نصف ثروته ، ويجعله وريث عرشه من بعده ..
أما إذا فشل ، فسيكون عقابه قاسياً ، وقاسياً جداً !
طمع الكثيرون من شباب المملكة في العرض الذي قدمه الملك ،
وتقاطروا على القصر طامعين في أن ينجحوا في حل الألغاز الثلاثة والفوز بالأميرة والثروة
معاً .. إلا أنهم فشلوا جميعاً ، وكان مصيرهم الجلد والسجن !
وذات صباح ، دخل القصر شاب فقير ، ولكنه بهي الطلعة قوي الجسم ،
وطلب مقابلة الملك والأميرة ، ليجرب حظه ، ويحاول حل الألغاز الثلاثة .
أشفق الحراس على الشاب الجميل ، وحاولوا ثنيه عن عزمه ،
وأكدوا له أنه لن يكون أوفر حظاً ممن سبقه من شباب المملكة ،
إلا أنه أصر على مقابلة الملك ، فأذعنوا لمشيئته ، وسمحوا له بالدخول .
وقف الشاب في حضرة الملك والأميرة . تأمل الملك الشاب جيداً ،ثم قال :
- هل عرفت مصير من سبقوك في المحاولة ، وعجزوا عن حل الألغاز الثلاثة ؟
قال الشاب :
- نعم عرفت يا مولاي .
قال الملك :
- وما زلت مُصِراً على المحاولة ؟!
قال الشاب بثقة :
- كل الإصرار يا مولاي .
التفت الملك إلى ابنته ، وقال :
- إنه عنيد ولا يعتبر . فاطرحي عليه ألغازك .
قالت الأميرة :
- سمعاً وطاعة يا أبي !
ثم التفتت إلى الشاب ، وقالت :
- أريدك أن تقول لي ما أحلى شيء في الدنيا ؟ وما أجمل شيء ؟ وما أغلى شيء ؟
أطرق الشاب ، وصمت برهة مفكراً ، ثم رفع رأسه ، وقال :
- أجمل شيء هو النوم بعد السهر ، وأحلى شيء هي الشمس بعد المطر ،
وأغلى شيء هو النظر !
التفت الملك إلى ابنته مستفسراً عن مدى صحة ما أجاب الشاب ، فوجدها واجمة ،
وقد أفحمها الجواب .. فابتسم في داخله ، ونظر إلى الشاب بإعجاب شديد ، ثم قال لابنته :
- هيا اطرحي عليه لغزك الثاني .
- سمعاً وطاعة يا أبي !
ثم خاطبت الشاب :
- يجب أن تقول لي ما معنى : لا ،لا ،لا !
ابتسم الشاب ، وقال :
- هذه لاءات عرب وادي النقاء !
قالت الأميرة : إجابتك غير كاملة ، فأفصح أكثر !
اتسعت ابتسامة الشاب ،وقال :
- عرب وادي النقاء كانوا يحبون إقراء الضيف وخدمته، والسهر على راحته ،
لذا اشتهر عنهم قولهم :
ولا نحك ورا أذن لذي خبر
ولا نغير عادات سرت فينا
ولا نقول لضيف حل منزلنا
عربان وادي النقا من خلف وادينا
سر الملك كثيراً بجواب الشاب ، والتفت إلى ابنته ، فرأى الذهول والوجوم مرتسمين
على وجهها ، فقال مبتسماً :
- لقد نجح هذه المرة أيضاً ! هيا اطرحي عليه لغزك الثالث .
قالت الأميرة :
- سمعاً وطاعة يا أبي !
ثم التفتت إلى الشاب ، وقالت :
- أريد منك تفسيراً مقنعاً للأعداد من واحد وحتى اثني عشر !
ودون تردد ، أجاب الشاب:
- الواحد :هو الله سبحانه وتعالى، والاثنان : الليل والنهار ، والثلاثة :الشمس والنجم والقمر ،
والأربعة : الخلفاء الراشدون ، والخمسة : الصلوات الخمس ،والستة :
الأيام التي خلقت فيها الدنيا ، والسبعة : السماوات الطباق ، والثمانية :
أهل الكهف وثامنهم كلبهم ، والتسعة : عدد أشهر الحمل عند المرأة ، والعشرة :
المبشرون بالجنة ، والأحد عشر : إخوة سيدنا يوسف عليه السلام ، والاثنا عشر :
عدد أشهر السنة .
عندما انتهى الشاب من إجابته ، نهض الملك واقفاً ، وصاح بفرح :
- إنها إجابة أكثر من مقنعة . لقد جئت بكلام جميل أيها الشاب ،
ولا أعتقد أن ابنتي سترفض عريساً ذكياً وحكيماً ووسيماً مثلك !
ثم التفت إلى ابنته ، وقال :
- ماذا تقولين في إجابته يا ابنتي ؟
أطرقت الأميرة ، ولم تنبس بأية كلمة . عندها ابتسم الملك ، وقال :
- السكوت علامة الخير . وزفت الأميرة إلى الشاب الذي أصبح أميراً ، ومن بعدها ملكاً ،
حيث حكم البلاد باقتدار وحكمة وذكاء ، وصارت المملكة في عهده مزدهرة ،
ترفل بالنعيم والهناءة والأمان .